السبت، 10 أكتوبر 2009

دعوة إلى قمة "عدم الإحتياج"



دعوة إلى قمة "عدم الإحتياج"

أثارت قمة دول "عدم الإنحياز" الأخيرة في مدينة شرم الشيخ المصرية العديد من الحوارات السياسية البناءة التي عقبت انتهاء القمة. وبعثت من جديد التساؤلات التي باتت ملازمة للقمة، من حيث جدوى "حركة عدم الإنحياز" ومدى توافق هذه مقومات هذه الحركة الآن وتلك التي قادت إلى تكوينها قبل أربع وخمسين عاماً.

والواقع أن الحركة قد بدأت فعلياً بمؤتمر باندونج 1955 في أندونيسيا، وعدد الأعضاء 29 بلداً، وسط تناقضات أساسية من حيث الأهداف والسياسات، وانقسمت بين فريق يركز على حركات الإستقلال ولا سيما في أفريقيا (ومثل هذا التوجه ناصر- مصر)، وفريق يركز على السلام الدولي وخاصة الهند (ومثله نهرو- الهند)، وفريق يركز على عدم الدخول في تحالفات مع أي من الكتل الدولية "حلف الناتو، أو حلف الأطلسي" (ومثله تيتو- يوجوسلافيا) وفريق يركز على قضية فلسطين (مثله العرب). وحاول كل فريق أن يدفع بقضيته في مقدمة أولويات القمة، مما أدى إلى خروج القمة بقرارات دعائية أكثر منها تنفيذية، ولم يتحقق القدر الكاف من التنسيق، كما لم تخرج القمة بتقريرات تنظيمية كما هو المعتاد في تكوين المؤسسات الدولية.

ولقد جاءت تسمية "حركة عدم الإنحياز" من قِبل "تيتو" الذي وجد في ذلك التجمع غير محدد الأهداف فرصة حقيقية لزعامة تعضد موقفه العالمي ولا سيما بعد خصومته مع الإتحاد السوفياتي. ولم تكن فكرة عدم الإنحياز هي القاسم المشترك الحقيقي بين هذه الدول، حيث كان منها الصين المنحازة نحو الإتحاد السوفياتي وجارتها اللدودة اليابان ذات الإنحياز تجاه أميركا. فلم تكن المصداقية متوافرة إلى الحد الذي يخلق معه توجها سياسياً موحداً وإطاراً تنظيمياً متسقاً. كما لم تكن هناك حددات للعضوية، سواءا بالإضافة أو بالتجميد أو الحذف. ومن ثم فقد تم على مدى تاريخ "الحركة" تعويم أهدافها، واستبدال توجهاتها الأساسية بتوجهات جديدة لا علاقة لها بمفهوم "عدم الإنحياز". وتم كسر العديد من أواصر الحركة مثل "عدم السماح بقواعد أجنبية على أراضي الدول الأعضاء". وحيث لم يتم وضع الشروط المحددة للعضوية، فلقد سمحت بعض الدول بالتواجد العسكري لدول التكتل (خاصة أميركا) على أراضيها دون أن يثير ذلك تساؤلاً داخل أرجاء القمم المتتالية. بل دخلت أجزاء من دول (مثل يوجوسلافيا رائدة الحركة) في تحالف مباشر مع كتلة دولية وأصبحت عضواً في الناتو.

أما على المحور الأفريقي، فرغم تخلص غالبية دول أفريقيا من الإحتلال العسكري، إلا أنها لا زالت ترزح تحت نير الإستعمال الثقافي والإقتصادي والتدخل المباشر وغير المباشر في سياساتها الداخلية وفرض قرارات جبرية عليها من جاني دول احتلالية كبرى مثل فرنسا وأميركا وانجلترا. وبسبب التدخل الأجنبي ودعم عصابات المافيا الدولية لسوق السلاح في أفريقيا، تم تسخير الأطفال والنساء إلى جانب الرجال في حروب أهلية ضارية استنزفت أفريقيا وتسببت في موت الملايين قتلاً وجوعاً، رغم تميز أفريقيا عن سائر القارات بمستويات عالية من الثروات الطبيعية والتعدينية ومخزون المياة والأراضي الزراعية والموارد البشرية. ولم تقف حركة عدم الإنحياز- والتي تغطي مظلتها سائر أفريقيا- حائلاً دون انتهاك آدمية الإنسان الأفريقي، وإنما كانت غطاءا إعلامياً على انتهاكات كانت السمة الأساسية للنصف الثاني من القرن الماضي وامتدت لتلوث الحقبة الأولى من القرن الحالي، دون ظهور مبشرات في الأفق أو بادرة أملٍ لمنكوبي أفريقيا، تلك القارة التي أريد لها أن تموت جوعاً.

ومع رحيل عبدالناصر وتيتو وجواهر لال نهرو، فقدت الحركة الكثير من حماسها، ومع دخول العديد من الدول حتى صارت 118 دولة، تفاقمت الملفات الموضوعة أمام زعماء القمم المتتالية، وتراجعت افريقيا كالعادة، وحلت مكانها لقضايا التي تمثل بؤر صراع ذات بعد دولي وحساسية إقليمية، واكتفت أفريقيا بترديد نغمة إدانة التفرقة العنصرية. رغم أن مشكلة التفرقة العنصرية اليوم قد تركزت في الممارسات القمعية لدول خارج حركة عدم الإنحياز، مثل أوربا. بل وظهر الإسلام كبديل لدى الغرب يصب عليه جام اضطهاده، وأصبحت الحركة في حاجة إلى استبدال "إدانة التفرقة العنصرية" بإدانة التفرقة الدينية.

إن الحركة التي أصبحت أفريقيا تمثل فيها أغلبية، لم تلتفت إلى مشاكل افريقيا بعد، وهو ما يعني عدم التوافق بين متطلبات الحركة الواقعية، وأهدافها المعلنة منذ الحرب العالمية الثانية. ويبدو أن أهداف الحركة الإبتدائية قد عفّ عليها الزمن، وهي في حاجة إلى وقفة لإعادة صياغة أولوياتها، وربما تغيير اسمها أيضا. وليس هناك عيب في ذلك، فمنظمة الأمم المتحدة هل نتاج تطور "عصبة الأمم الدولية"، وليس هناك ما يمنع إعادة تنظيم الحركة، ورسم حدود عضويتها إعادة عرضها على الأعضاء من جديد، يرضاها من يرضى ويأباها من يأبى. فالمنظمة ليست بالعدد وإنما بالإتساق والتفاعل البناء، والإدراك الكامل للأولويات.

لقد سقط الإتحاد السوفياتي منذ ديسمبر 1991 متفتتاً إلى 15 دولة، ولم تعد يوجوسلافيا تحتاج إلى دول عدم الإنحياز بسقوط أحد طرفي المعادة، كما لم تعد الهند تحتاج إلى دعمها بسقوط الحليف الأساسي للصين التي كانت تخشاها، ولم تعد تحتاجها أفريقيا بحسب تقديرها للإحتلال على أنه احتلال عسكري فحسب، ولم تعد تحتاجها الثورة المصرية التي مرَّ عليها 57 عاماً وأصبحت تتميز بكونها أكثر الحكومات استقراراً في الإقليم. كما تم تحرير السواد الأعظم من أفريقيا وعلى رأسها دول المغرب العربي. كما لم تعد تحتاجها دول أميركا اللاتينية والتي ابتدأت بكوبا، حيث تحررت كل هذه الدول بالفعل منذ زمن. كما لم يعد العرب والمسلمون يعولون على مؤسسة بهذا الضعف والتشزم في حل قضية التاريخ، فلسطين.

ومع تحول العالم إلى الأحادية القطبية، أصبح الدور المطلوب من أية مؤسسة بديلة أو خليفة لحركة عدم الإنحياز، هو أن تقوم بدور فعال في الحد من تطرف القطب الوحيد، وتعميق سياسة الدفاع السلمي، والذي يمكن تدعيمه بالحصار الإقتصادي ووسائل الضغط الأخرى. وأن توضع محددات للعضوية تمنع إمكانية إعادة اختراقها، واستقطابها، وإفشال مهامها الرئيسية، وتمييع قضاياها المصيرية.

ولكي تعبر المؤسسة المقترحة عن رأي غالبية أعضائها، فإن قضايا أفريقيا يجب أن تأخذ حقها الطبيعي من اهتمام المؤسسة، وأن تسعى المؤسسة إلى صياغة أطر التعاون الإقتصادي الداعم للتنمية المتواصلة في أفريقيا، وكف أيدي الغرب عن التلاعب بمقدرات القارة الأفريقية، ومؤازرة قوى السلام والتنمية بالقارة السمراء. والإعتماد عليها في تمويل احتياجات أعضاء المنظمة من الغذاء، ودعم القطاعات الزراعية والتعدينية بها، مما يحقق قاعدة تعاون حقيقية يمكن أن تكرس وضع المؤسسة وتدعم موقفها الدولي لتحظى بالإحترام اللائق بأعضائها.

إن ما يحتاجه أكثر أعضاء حركة عدم الإنحياز اليوم، هو الإكتفاء الذاتي بين أعضاء الحركة، وعدم الإحتياج إلى الغرب في تمويل وتحريك إقتصادات البلاد بشروطهم السياسية والإقتصادية المجحفة، ولتكن هي إذن "حركة عدم الإحتياج".

ليست هناك تعليقات: