الاثنين، 17 نوفمبر 2008

حديث على مائدة المصريين

 الأستاذ محمد النجار كنا في جلسة ودية أسرية أو شبه أسرية. فالمصريُّون كلهم أسرة واحدة، مهما اختلفت رؤاهم وتباعدت توجهاتهم. يذوبون في نفس البوتقة كل يوم، ويتنفسون أنفاساً مختلطة، وتدق قلوبهم جميعاً بالحب والوحدة والإنتماء. وكثيراً ما يتبادلون أطراف الحديث، وتدخل السياسة في الكثير من تلميحاتهم وتصريحاتهم، جزأ أصيلاً من البناء الفكري للشخصية المصرية. والمصريون من أكثر شعوب الأرض ثقافة، ويعرف ذلك من أتيحت له الفرصة أن يضرب في الأرض أو يلتقي في أرضه بغير أهلها وهم كثير.


تناول الحضور الكثير من الموضوعات، حتى وصل الموضوع إلى حديث العالم الساخن في نهاية حقبتنا الأولى من القرن الحالي: "الإخوان المسلمون"، وبا أن الموضوع يأخذ أطراً مختلفة لدى البعض، وآثرت الإستماع. ليس عيباً أن نختلف، فتلك هي سنة الحياة، وذلك من قبيل دفع الله للناس في الأرض، لإستمرار الحياة و تضافر المنتوجات البشرية. ولم يقف الإسلام أبداً في وجه الثقافة ولا حرية الرأي، بيد أنه نظم الأمور كلها ووضع حدوداً قد علم الخالق سبحانه بعلمه السابق للإحداث والمطلع على مقدرة العقل البشري الذي خلقه فهو يهديه. هذه الحدود تماثل حاجزاً تضعه لطفلك كي لا يسقط من النافذة فيهلك. ولو أنك تركته لحرية رأيه لربما استهواه أن يطير كما يطير السوبرمان في أفلام الكرتون.

قال السيد هاني بالحرف الواحد: " لو أن الإخوان أمسكوا بالحكم لقطعوا أيدي الناس وعلقوا لهم المشانق والمجازر". كدت أنطق غير أنني آثرت التمهل. ورد عليه الشيخ خالد: " يا أخي، الآن هناك من يقطع الرقاب ويستحل الشجر المثمر والغاب. وهل هناك مجازر أسوأ من هذا؟ الناس يموتون بأمراضٍ شتى لم نسمع لها من قبل نظيراً، ويُسجنون لمجرد المواظبة على الصلاة أو إطلاق لحاهم التي هي سنة؟ وأصبح المسلم الحقيقيُّ كالأجرب في العالم؟". وهنا رد عليه ثالث: "وهل تريد أن تحمل النظام كلَّ هذا؟ أفتريد من الحكومة أن تفعل لكم كل شىء والعدد يتزايد كالنار في الهشيم؟. رد عليه الشيخ خالد مبتسماً: وهل من الحكمة وكفاءة القيادة أن يعيش شعبٌ أكثر من ثمانين مليوناً في مساحة لا تتجاوز أربعة بالمائة من مساحة البلد؟ نحن نشكوا من الزحام بينما نتكدس في أقل من جزء من عشرين جزءاً من أرض الوطن.

وهنا تدخل رجل الإحصائيات والإقتصاد في الجلسة السيد عامر: أجل يا أخي، إن حكومتنا قد أخذت بالبلد بعيدا جدا عن طريق الإصلاح، حتى إننا لنعتبر العودة إلى طريق التقدم شيئاً بعيدا جداً. فالإدارة المركزية جعلت من الزحام وتعطل المصالح مظهرا ملازماً للحياة في مصر، وتوقف المشروعات وعدم استثمار القوى العاملة وترك الشباب نهباً لوسائط التدمير المختلفة يجعل الأمر يزداد تعقيدا كل يوم. فنحن مثلاً لا نجد اتفاقات لتصدير العمالة المصرية التي كانت تدر على مصر عائدا مرتفعا من العراق قبل الحرب والسعودية والخليج قبل السعودة والخلجنة. فحكومتنا لا تستخدم هذه القوى المعطلة ولا تفتح لها الأبواب للخروج لضخ المزيد من العوائد الخارجية في ميزانية الدولة المنهكة. بل إنها تزيد من صعوبة الأمر كل يوم وتضع المزيد من القيود أمام السباب الذي يريد أن يسافر ليبحث عن لقمة العيش. فهذه شهادة الكبد الوبائي والفيروس سي، وتلك شهادة ضابط اتصال (غير متاح دائما)، وهذه شهادة كذا وتصريح كذا.. حتى أصبح السفر من أجل لقمة العيش يحتاج إلى سفر سابق له، وهناك من يسافر إلى بعض الدول كي يعمل ويدبر ثمن تأشيرة وتذكرة و "شور ماني" بلد أخرى.

وهنا ضاق السيد هاني ذرعاً وقاطعه: وهل ستحل كل عقد الدنيا لمجرد وصول الإخوان إلى الحكم؟ وما الذي يضمن لك أنهم لن يزيدوا الطينة بلَّة؟ تدخل الشيخ خالد قائلاً: يا أخي، ماذا رأينا منهم غير الحرص على مصالح العباد والمطالبة بتطبيق شرع الله، والتضحية على طول الخط بينما يتشدق الباقون بالكلمات؟ وهل لديك ما تبرهن به على اتهاماتك لهم بالتعصب؟ هل أفتو بقطع اليد لغير السارق؟ وهل هناك خير من قانون الله وشرعه؟ وهل تعلم الشروط التي يتوقف عندها تطبيق الحد؟ وهل تعرف ماهية القصاص؟ ألا تعرف أنك بذلك لا تتهم الإخوان وإنما تتهم دين الله وشرعه؟ وهل تعلم أن دين الله وشرعه لم نتوقف عن العمل به قبل مائة سنة فقط؟ وماذا جنينا من تطبيق قوانين الرومان والإنجليز والفرنسيين وغيرهم؟ أما بشأن الحرية، فهل تعتقد أن الإخوان سيكممون الشعب ويحولونها إلى دولة بوليسية؟ وكيف ذلك وهم يطبقون شرع الله؟ هل يعقل أن من يطبق شرع الله سيمكنه أن يجد ما يفعل به ذلك؟ أم هؤلاء الذين يطبقون كل يوم قانوناً مختلفاً يصدر بعد منظومة تقليدية معتادة من التنميق والتصفيق؟

وحين رأى مضيفنا سخونة الموضوع، ولم يكن ممن يهتمون كثيرا بأمور السياسة، طلب منا أن ننتقل إلى صالة البيت، حيث كان التلفاز مفتوحاً، وانتقلت الأخبار من قتلى في العراق إلى قتلى في أفغانستان إلى مذبحة في غزة، والكل يحتسب. وانضم السيد هاني إلى قائمة المحتسبين. لقد تغير تماماً وفي دقائق معدودة. مثل أيِّ مصريّ، تراه في الضائقة وعند الغوث، بقلب رحيم وعقل سليم وتواد وتراحم حقيقيين. لقد زالت الخلافات تماماً، واتحد رأى الحضور على أن ما يحدث هو بحق أكبر مهزلة في التاريخ، وأن وجود مصر خارج الأحداث هو أكبر إهانة يوجهها النظام لشعبه التاريحي الكريم.

ثم انتقل التلفاز بنا إلى برنامج لم ير الحضور ما هو أسوأ منه، وهو برنامج يتناول الأسرة المصرية ويختلق صوراً غير كريمة لأحداث وهمية يلصقها بالأسرة المصرية، مستخدما عناصر مأجورة تضحي بكرامتها بثمن بخس. وأخذت مقدمة البرنامج المستفزة تتشدق بمصطلحات الحرية وحقوق المرأة وأنالمرأة مثل الرجل، وتتمادى إلى أبعد الحدود في ذلك دون رادع أو مانع. هنا نطقت وعلقت تعليقي الأول والأخير قبل أن أنصرف. أيها الأخوة الأحباب... هذا البرنامج وما شابهه من برامج هو البعرة التي تفوح رائحتها لكل مسلم ينتمي إلى عالم الإسلام العفيف، وتدل على بعير الفساد الذي ظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. وليعلم كل ساكت عن الحق، أن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، وأن موقفه إما أن يكون في سبيل الله ونصرة الحق ورفع الظلم عن العباد، أو شهادة زورٍ يلقى بها الله بوجه مسود يوم القيامة، أو أن يكون شيطاناً أخرسا لا ينتمي إلى دين الله الحنيف. ثم انطلقنا كلٌ إلى داره، وقد استقر في نفسه شىء


ليست هناك تعليقات: