الاثنين، 17 نوفمبر 2008

المحاكم العسكرية تجعل من النظام القضائي ألعوبة

أن يكون النظام القضائي مريضاً، فلكل داءٍ دواء إلا الهرم والجذام، وأن يكون النظام القضائي مظلوماً، فلن يعرف حق المظلوم خير من مظلومٍ مثله. وأن يكون النظام القضائي معوجاً، فالأيام كفيلة بتقويم اعوجاجه. لكن الكارثة أن يكون النظام القضائي خيال مآتة، أو غطاءاً لنظام سلطويٍّ وليس قضائي. وهذا هو حال مصر في مقتبل القرن الواحد والعشرين أيها السادة. ولا عزاء في التاريخ الذي مات.


لم يزعجني خروج نصٍ في قانون السلطة ينص على حق رئيس الجمهورية في إحالة أي متهم من المحاكم المدنية إلى المحاكم العسكرية حتى وإن كان مدنياً. وفي الواقع فإن المحاكم العسكرية نفسها ما وُجدت إلا للحفاظ على الأسرار العسكرية من أن تكون متداولة في المحاكم المدنية تتلقفها مخابرات العدو أنى شاءت. ولم يكن السبب مثلاٌ هو عدم معرفة القضاة المدنيين بالقواعد العسكرية، فهم لا ينقصهم شىء من المعرفة القضائية يستحيل تلقينهم إياه. وكلما ازدادت مساحة العدل لدى النظام الحاكم، كلما ضاقت صلاحيات المحاكم العسكرية حتى تصبح الإحالة إليها ترتكز فقط على محددات الأمن القومي والحفاظ على أسرار العسكرية بالدرجة الأولى. فهل لدى الأستاذ الشاطر ورفاقه ما يُخاف من إفشائه على الأمن القومي، أم أنه أمن النظام الغير آمن؟
ورغم ذلك فلم يزعجني ذلك النصُّ على النحو الذي نُصابُ به الآن (رغم خطورته على الأمن القومي). بل إن الكارثة الحقيقية لم تحدث حتى الآن، وإن كانت تحلق في سماء العدالة المنكوبة، فما هي؟ الحقيقة أن الإجابة على هذا التساؤل تجرنا إلى قضية فلسفية في علم الأخلاق، وهي المناظرة ما بين سجن برئ، وبراءة مذنب، أيهما أسوأ؟ إن سجن برئ هو سجن للحرية التي هي أغلى ما يملك المرء بعد دِينه. وهو جناية يرتكبها أصحاب السلطة (وهُم يختلفون تنظيرياً عن أولي الأمر الذين تلزم طاعتهم ما أطاعوا الله وأقاموا دِينه). فاصحاب السُلطة قد يكونوا من الإحتلاليين (وليس المُحتَلِّين لغويا)، وقد يكونوا من سدنة كرسي السلطة أو آلة الحكم غير الشرعية. وتلك إشكالية أخرى نعزف عنها تعلية للطرح قيد النقاش.
وتلك الجناية قد لا يمكلك الشعب القدرة على تطبيق عقوبتها على الجُناة في حينه لكونهم سلطويين. ومن هذا تحدث النكاية بإرادة الشعب وتعظم آثارها بما يتولد عنها من تردد لدى قوى الإصلاح في النهوض بواجبهم تجاه البلد التي تنظر إليهم نظرة غريقٍ يستصرخ الغوث. بل إنها تُحدِث بلبلةً على المستوى التربوي للمجتمع الشبابي الذي قد يتخبط بين تفسيراتٍ متضاربة لمعنى العدالة، والشرعية، وما إذا كانت الشرعية مصدراً للعدالة أم وكيلاً لها. وهل أصل الشرعية هو القانون أم القوة؟ وماذا يتطلب الأمر ليكون شرعياً، وهل تأتلف تلك المتطلبات مع متطلبات العدالة أم تتعارض معها؟ لا شك أن هذه التساؤلات هي مستنقع الفكر البشري الذي حاول أن ينصب نفسه في مقاب القانون الشرعي الطبيعي والموجود في سياق النظام الإسلامي للحياة والمعاملات، والمقنن فقهياً بإسهامات علماء أجلاء، لا يقدح في علمهم إلا جاهل أو مفتر.
وأما الجناية الثانية فهي التي أزعجتني كثيراً. فحبس مظلومٍ سوف يعود على المجتمع بخسارة ما يقدمه هذا الفرد لو لم يُحبَس. ولكن إطلاق مذنِبٍ على المجتمع لينهش في براءته ويعيث في الأرض فساداً، هو أخشى ما يجب أن نخشاه. فهو تقوية للظلم ودعوة إلى الفجور والتنطع السياسي. وذلك هو الوجه الأسوأ لإجازة تحويل الحاكم من يشاء إلى المحاكم العسكرية. فهو سبيل إلى تبرئة مذنبٍ يخدم النظام أو يحمل إسرار إدانة لحاشية السلطة. وهو بطبيعة الحال أشد خطورة على أمن البلاد، لكونه خادماً ذليلاً للسلطة ما لم يكن خادماً متطوعا لها. وهذا أيضا يتيح مع دمجه بقانون العيب الذي يدين من الصحفيين من يفضح كبار الفاسدين في الدولة وأئمة التشويه فيها، ينتج لنا صحافة حرة خلف القضبان. كما يتخلق في رحم النظام السياسي للدولة سلطة خامسة هي سلطة السلطويين.
نعرف أن هناك سلطات ثلاثة: التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، أضيف إليها ما سماه البعض بالسلطة الرابعة وهي السلطة الرقابية المتمثلة في الصحافة. غير أننا نواجه اليوم سلطة من نوعٍ جديد، تضرب هذه السلطات في الصميم. إنها السلطة السلطوية. تلك التي ضربت سوسها في نخاع السلطة التشريعية لتجعل منها مسخا سلطويا يأمر بأمرها وينهي به. وتمكنت بفضل حقها الإداري في تغيير عناصر السلطة التنفيذية، من تحويلها إلى جهاز لحراسة مصالحها، وتقييد السلطة القضائية وسجن السلطة الرقابية الصحافية. ثم لم تكتف بذلك، بل إنها قد غيرت من أسلوبها تغييراً نوعياً خطيراً، بذلك القرار المشئوم الذي أتاح تحويل المدنيين إلى قضاء العسكر. لقد تمخضت التنازلات الشعبية المتتابعة عن وجود ما يستحق أن نسميه بمحاكم التفتيش السياسية.
ولنسأل قضاة مصر اليوم سؤالاً واضحاً لا يخطئه فهم. السلطة السلطوية اليوم تسجن الأبرياء، ولديها من القوانين المغرضة ما تطلق به المذنبين، فماذا بقي لكم غير قضايا النفقة والمتعة ونقل الحدود وما شابه ذلك من قضايا؟ وهل تقبلون لأنفسكم أن تكونوا شياطين خرس؟ إن من يحتل كرسي القضاء يعدُّ (إن كان صادقا) مجاهدا في سبيل الله أعظم جهاد، جهاده جهاد الأئمة والعلماء. ولا يستحق وشاح القضاء من يقبل بتحديد إقامته القضائية في قضايا فرعية، ويتخلى عن قضية الأمة الأساسية. العدالة يا قضاة العدل. أنتم مقياس الشرعية وعنصر قيام الدولة وزوالها، ومصدر خضوع الشعب للسلطة. فأنتم إذا تحملون مسئولية ضياع سلطتكم التي ستبكون عليها حين تضاف أسماؤكم إلى قائمة السجناء، بأحكام قضاة العسكرية، أو عسكرية القضاة.
هذا التشويه المتواصل للنسيج الإجتماعي، لن ينتج عنه زوال الإجتماعية المصرية. فلقد صمدت على مرِّ الزمان، وللشعب تقاليد راسخة للتربية تتناقض مع كل ذلك العبث. وسوف تكون الغلبة للحق الذي هو ثابت، ويزول الغثاء وما لا ينفع الناس. فاختر طريقك، إما طريق العدالة، وإما طريق الضياع. وليذكر من وقفوا في عداد المعارضين إيا كانت رايتهم، أنهم مسلمون، وأنهم مُطالبون بالعدالة، وأن يتعالوا فوق الحزبية والتشرزم، وليذكروا قول الله تعالى " يا ايها الذين امنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنان قوم على الا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون" (المائدة/8).

ليست هناك تعليقات: