الاثنين، 17 نوفمبر 2008

العولمة السياسية .... الشرق الأوسط .. المحك الرئيسى

لقد تغيرت إحداثيات السياسة الدولية فى الشرق الأوسط لعدة مرات، وكل مرة تتغير يتم صياغة هذه الإحداثيات بمداد الدم. كانت إحداثيات الشرق الأوسط تتمثل فى طرفين داخليين (العرب والصهاينة) وأطراف خارجية (أوربا وأميركا وروسيا).


وحيث كانت المنظومة الخارجية تميثل بثقلها لصالح الجانب الصهيوني، فقد تعمقت القضية الفلسطينية، بؤرة الخلاف الشرق أوسطى الدافعة لكل أشكال العنف والعنف المضاد. ثم لم تلبث المتغيرات الدولية أن أثرت رياحها على الشرق الأوسط وانعكس ذلك فى عدم تحمل القضية الفلسطينية للضغط أكثر من ذلك، حتى أنها كادت تسبب مواجهة دولية فى معظم الأحيان، بين الأطراف الخارجية وتعارض للمصالح الأساسية، ألقى بظلاله على التوازن العالمى للقوى.
وسعيا الى تفتيت المعسكر الشرقى، حاولت أميركا الطرف الأكثر تأثيراً فى معادلة الشرق الأوسط أن تحل مكان المعسكر الشرقى الذى طالما سعت إلى احتلاله. حيث يعد إحتلاله الدليل القاطع على الهيمنة الدولية لأميركا. وتبنت أميركا نظرية الحرب بالوكالة بشكل أكثر توسعاً لم يقتصر فقط على ربيبتها إسرائيل. ووجدت الفرصة سانحة لها بدق متاريس الشقاق بين دولتين مسلمتين كبيرتين فى المنطقة، فى حرب اقليمية طويلة (1980-1988) انقسمت فيها المنطقة إلى عربى خليجى، وفارسى، وراجت فيها تجارة السلاح الأميركية، فضلاً عن تدفق الأسلحة على أفغانستان لإستنزاف الدب القطبى. وحققت أميركا جزءاً كبيراً من طموحاتها عن طريق الحرب بالوكالة، والتى كانت تدر أرباحاً طائلة ونفوذا هائلاً تمثل فى الإشتراطية السياسية Political conditionality المصاحبة للمساعدات العسكرية لدول النفط والإقتصادية لدول أخرى.

ولهذا سعت أميركا إلى تجميد حالة الحرب بين حلفائها( بعض الدول العربية، والصهيونيين) حتى يمكنها صياغة التحالف ضد الثورة الإيرانية وقيادة الحرب عن بعد أو بالوكالة، وذلك بتضخيم الأخطاء الإيرانية على أنها مساعى توسعية إيرانية تستهدف منطقة الخليج بأسرها، فضلاً عن زعامة الشرق الأوسط والتحكم فى ربطة عنق العالم. وقد تم ذلك بإتفاقية السلام بين مصر والكيان الصهيوني اللقيط، والتى أدت إلى تهدئة المشاعر الشعبية العربية تجاه أميركا، وعزل مصر عربياً، وظهور الزعامة العربية البديلة متمثلة فى العراق، جارة إيران التى تصدت للقيام بالدور الرئيسى بتمويل خليجى عربى وتوجيه ودعم عسكرى أميركى. وكان من مصلحة أميركا استمرار الوضع على ما هو عليه، إذ يلهى ذلك العرب عن الإستفزازات الصهيونية، كما أنه ينشط تجارة السلاح الأميركية ويدعم التواجد الأميركى فى المنطقة.

وبعيد الإنسحاب الروسى من أفغانستان، وتوقف الحرب العربية الإيرانية، كان لابد من خلق عدو جديد للدول العربية الخليجية، فضلاً عن التدخل العسكرى المباشر فى المنطقة بحجة تحجيم الإسلاميين. فأوعزت أميركا إلى صدام بغزو الكويت وهو ما فتح الباب على مصراعيه للتدخل الكامل فى المنطقة وبدعوة عربية مباشرة ودعم مادى ومعنوى. لكن ما لم تحسب أميركا حسابه جيدا هو أنها عاجزة عسكرياً عن تحقيق الإحتلال المباشر على الأرض. وأن تكاليف الحرب بالوكالة تبدوا زهيدة جداً أمام التدخل المباشر. وحاولت حل الموقف المتأزم فتورطت فى خطأ أفدح وهو الضغط على الحكومات الموالية لها عن طريق تفجير المشاكل الداخلية، ثم سعت فى تغيير هذه الحكومات. وأدت الطبيعة التقليدية المثابرة لشعوب المنطقة إلى فشل هذه المحاولات. وأصبحت أميركا وقد كشفت كل أوراقها وفقدت ثقة الحكومات الحليفة بل وسخط البعض منها أيضاً.

ومرة أخرى تعود أميركا إلى طاولة المفاوضات راغمة فى محاولة منها لإستعادة ثقة حلفائها، غير أن الأمر قد تغير. فقد اكتشفت هذه الحكومات مواطن الضعف الأميركى وتعلمت بالخبرة أساليب المناورة. وأصبحت غير راغبة فى الدخول فى مخاطرة الحرب بالوكالة، وخاصة أمام ذلك المثال الصارخ من فشل أميركا فى تدمير حزب الله، فكيف بإيران؟ كما أن الشعوب العربية لن تسكت، فقد تعلمت هى أيضاً بالخبرة الدامية معنى الحرب بالوكالة. ووقفت أميركا عاجزة أمام إيران، ليس لقوة إيران وإنما للضعف الأميركى والتردى فى السياسات لها، وعدم وجود أي عناصر للخبرة في عناصر الحكومة الدولية الشاذة. وليس هناك من شىء تستطيع أن تخرج به أميركا من التجمع الخليجى مع التحالف المصرى أردنى سوى مزيد من الإفتضاح.

والواقع أن أميركا هى التى خلقت نقاط ضعفها بنفسها بالتدخل فى منظومة العمل السياسى فى العراق، وإحداث تغيير هيكلي فى البنية السياسية للعراق لصالح جارتها إيران، العدو الأساسى للطموح الأميركى نحو خلق نظام شرق أوسطى بلا هوية، يتبع فقط المصالح الأميركية ويدور فى فلكها.
وقد تبدى واضحاً عدم فهم القيادة الأميركية للتشابكات السياسية فى الشرق الأوسط واعتمادها فى رسم المنطقة على بيانات قديمة، تهمل التطور السياسى والمعرفى للمنطقة العربية. كما أنه قد وضح تماماً عدم أهلية أميركا لقيادة العالم نظراً لسقوط ما كان يسمى بدولة المؤسسات، واستراتيجية اتخاذ القرار، واصبحت قرارات القيادة الأميركية متخبطة وعشوائية ومتعنتة حتى فى غير مصلحة الشعب الأميركى نفسه، والذى بدا الضجر والضيق واضحاً على قسماته. أما حلفاء أميركا فهم يجارونها لحين تتغير القيادة الأميركية لعل الغد ياتى بشىء أفضل.

وهكذا ثبت على الصعيد السياسى أن العولمة ما هى إلا فكرة هلامية لا تستطيع أن تشكل مقررات الواقع السياسى المعاصر، حيث لا تعتمد على أسس حقيقية وما هى سوى تل من الكتابات الغير متسقة، والتى تعبر عن الحلم الأميركى الذى بدا واضحاً إستحالة تحققه. وربما وأميركا تلفظ أنفاسها الأخيرة، تدرك أن تسييس العالم وفق ثقافة واحدة وضعية ما هو إلا ضرب من الجنون، وهكذا العولمة.

ليست هناك تعليقات: