الاثنين، 17 نوفمبر 2008

الشعب المصري .. آخر خدمة الغـُــزِّ علْــقـَــة

ربما تكون هذه هي المرة الأولى في تاريخ الشعب المصري التي تتردى فيها الأوضاع الإقتصادية إلى هذه الدرجة الخطيرة. لقد وصل الأمر في عهد الإحتلال الروماني الجائر أن تُفرض ضريبة على الأموات، ضريبة على نقل جثث الموتى في الطُّرقات، لكن الشعب كان لا يشكو لقمة العيش بل الحرية المفقودة وكرامة الأمة التاريخية الأبية. وفي عهد الإحتلال الإنجليزي خرجت انجلترا من الحرب العالمية الثانية وهي مدينة لمصر بمبلغ مليون جنيه مصري (أربعة مليون جنيه استرليني)، لاحظ ما بين القوسين. ولم تمض خمس سنوات إلا وكانت مصر قد دخلت عهداً جديدا سثمِّيَ بعهد الثورة. وبدأت خدمة الغُــزِّ.


لقد كانت الضربة القاصمة للحرية في مصر، والتي أدخلتها في مضمار الإحتلال اللوجيستي، هي عملية تشكيل النظام الدستوري في مصر على أسس غير إسلامية. وتم افتراض عدد من الأعضاء لما سُمِّيَ بمجلس الشعب. فلقد كان العدد هو 454 عضواً يقوم الشعب (إفتراضاً) باختيار 444 منهم، بينما يقوم رئيس الجمهورية باختيار عشرة أعضاء. وحيث إن رئيس الجمهورية يكون هو نفسه زعيم حزب الأغلبية (جرياً على نسق الديمقراطية البغيضة ذات الأصل الغربي)، فإن الحزب الحاكم يكون قد ضمن عشرة مقاعد قبل أن يدخل المجلس (الموقر). ويأتي اللعب هنا وتزييف الإرادة الشعبية، حيث يقوم الرئيس باختيار الأعضاء العشرة، من الموالين لكرسي الحكم أحياناً، وأحيانا أخرى من المنبوذين شعبياً، وأسوأ من ذلك من الذين سيتعرضون لمطاردة قضائية إذا ما فقدوا الحصانة. فما هي الحصانة يا تُرى؟
حسنٌ، إنها النكبة الثانية في النظام التشريعي. فمن المفترض أنها تحمي السلطة التشريعية من تجاوزات السلطة التنفيذية المحتملة في سبيل الضغط على السلطة التشريعية للحصول على مكاسب تتعلق بنفوذ النظام الحاكم. غير أنها أصبحت الآن تستخدم لحماية بعض المجرمين ومهربي المخدرات وأعمدة الفساد بتواطؤٍ ٍ واضح من آلة الحكم ودوائر التخريب. ويظهر ذلك واضحاً لدى مقارنة عدد المحصَّنين التابعين للحزب الحاكم والذين تدور حولهم الشبهات، بغيرهم من الأحزاب الأخرى. فهل هناك نكبة أكبر من هذه؟ نعم، إنها عملية التجهيل الدستورية.
وفقاً للنظام الدستوري في مصر، فإن نصف مجلس الشعب يكون مخصصاً للعمال والفلاحين. وهذا النصف لا يشترط فيه من التعليم سوى أن يجيد العضو (الموقر) القراءة َ والكتابة!!! أي أن شهادةَ محوِ الأمية فقط هي المطلوبة. وحيث يسهل تزويرها، فإن نصف مجلس الشعب يمكن الطعن في كفاءته. ولك أن تتوقع ما الذي يحدث عند مناقشة قرار يتعلق بالموازنة العامة أو بالإصلاحات المالية أو بالموقف السياسي وتطورات النزاع في منطقتنا الملتهبة دائما. ماذا سيكون قرار العضو (الموقر) الذي لم يدرس قط موقع بلده على خارطة العالم؟ ، ولا يعرف شيئا البتة عن السياسات المالية والنقدية وتعويم سعر الصرف أو ربطه، وإصدار سندات حكومية أو ما شابه ذلك من المصطلحات التي لابد من معرفتها لمناقشة الإستجوابات، أو إبداء أبسط الآراء، وأخذ التصويت. لقد وفَّرَ الدستور المريضُ الحق َ لمن لا يعرف شيئا على الإطلاق، في إبطال صوت العلماء. تخيل أستاذا جامعيا وعالماً فقيهاً يقول لا، في حين أن مزارعاً لا يكاد يتهجى اسمه، يقول نعم.
وهناك تجارب كثيرة حدثت فيها مفارقات عديدة، مثل مناقشة اتفاقية السلام المشؤومة، ومناقشة حرب العراق الكارثية. لقد ركزت دوائر التخريب على التأثير العاطفي في أولئك الذين خرجوا توا من الفصل الليلي لمحو الأمية. فماذا يفعل عضو (موقر) رسب في امتحان محو الأمية مرة، ونجح في نفس الأسبوع (بنزاهة)، والسيد الدكتور ضخم الجثة والمركز يبكي أمامه ويقول بأي حقٍ يا صدَّام. في حين أن المشكلة ليست صدَّام وإنما في المؤامرة التي حيكت بدقة لتدمير المنطقة واعادة احتلالها مستخدمة صداَّم وغيره من طواغيت الحكم ذريعة، تستجدي بها عواطف الجهلاء. فهل سيجرؤ ذلك العضو النائم في الكراسي الخلفية والأمامية بأن يجادل؟ وهل حجته ألحن من حجة أستاذ الجامعة؟ إن موقفه في كلتى الحالتين واحد وصامد، وهو التصفيق لكل ما يراه أباطرة الحزب الحاكم. لم يصبح العضو الموقر، وإنما صار سيادة العضو الإمـَّعة. ومن يملك الإعلان يملك الآذان. كيف؟
ليس هناك ما يسمى بالعدالة في ظل النظم الديمقراطية، فهي نظم لا تقوم على الإختيار الرشيد للشعب، وإنما على الإختيار المُضَـلَِّّـل. ويكفي أن تذيع الحكومة برنامجاً مغرضاً واحداً لكي يخرج الشعب المُغرَّرُ به في الطرقات يهتف بحياة الزعيم وسقوط المعارضة. وهل هناك من يملك الإعلام سوى النظام الحاكم؟ وهل يعرف الشعب شيئاً سوى: " التقى السيد الرئيس بالسيد الرئيس وتناولا الموقف بالمنطقة"، و "علاقات البلدين علاقات أبدية ولا مجال للخلاف بين الأشقاء" و " الصحف الأجنبية تشيد بدور مصر الرائد في الأمن والإسقرار الدوليين وعلى زعامة مصر التي لا تهتز "، "القائد الملهم"، و "القائد المؤمن" و "رأس الحكمة". إن ديماجوجية الحكم وكاريزمية الحاكم ليس لهما من مصدر ٍ في عصرنا هذا سوى ترويجِ الإعلام المريض لمفاهيمَ تقتربُ من العصمةِ للحاكم، والشركِ بالله تعالى.
ولذلك فلن تنعم مصر بحرية في الرأى، ولا بصحافة نزيهة حرة غير مسجونة، طالما لا يفهم الناس الفارقَ الشاسعَ بين الحكمِ الإسلامي والحكم العلماني، ولا بين التشريع الإلاهي المعصوم، والتشريع البشري الموضوع. طالما لا يفهم الناسُ الفارقَ بين مجلسِ الخاصةِ الذي لا يضم سوي المؤهلين فقهياً وعلمياً، ومجلسِ الديمقراطيةِ الذي يُخصص نصفُه للعمال والفلاحين، ويُترك النصفُ الآخر مفتوحاً. طالما لا يفهم الناس الفارق بين مجلس أهل الحل والعقد، ومجلس الشورى مهيضِ الجناحِ (الذي لا يعبر عن مسماه)، و الذي يعيِّنُ فيه الرئيسُ أحيانا ممثلين شرفيين ليصبح مجلس التكريم لخدام السلطة، و لا يقدم غير توصيات، وليس مجلس العلماء والمختصين الذي يمكنه حتى عزل سيادة الرئيسِ هداه الله.
هكذا تحول شعبُ مصرَ إلى تلاميذ في مدرسة الحـُكمِ الدِّيموكتاتوري. وما دُمنا نستوردُ بضاعةَ المصطلحاتِ الفاسدةِ الـمُفسدة تلكَ، فلن نفلح إذا أبدا. فهل غير الإسلام من حــــل؟ وهل غير دستور الله من دستور وعدل؟ إنه دستور ٌمِنَ المنزَّهِ عن الخطأ، وليس دستور جان جاك روسُّو، ولا ماركس ولا ماكس فيبر ولا حتى خربطات لاسْكِي. فماذا عليهم لو آمنوا بالله؟
لقد جربوا فينا كل حـُكمٍ وفشلوا، فهل آن الأوان لأن يتحرك الشعب، وأن نرفض أن نكونَ فئرانَ تجارب؟ حتى فئرانُ التجاربِ في هذا العصر صار لها حقٌ وجمعياتُ حقوق. فأي حكومةٍ تلك التي تختطف الشرفاء وتدْهَمُ البيوت على الأطفال والنساء؟ وأي ديمقراطية تلك التي يحلُمُ بها الشعب، وهي تقول برأي الأغلبية المُجَــهـَّـلةِ وليس بأمر الخالقِ المنزهِ عن الميل والهوى؟ أفأمرُ المخلوقِ الذي لا يغادرُهُ الغلط، أم أمر الخالق الذي لا يخالطهُ الشَّطَط؟ إن الذين يتشدقون بعدم قبول الدولة الدينية والأحزاب الدينية، هم أنفسهم الذين يحكمون مصر بدين غير دين الله، يحكمونها بدين العلمانية ودينِ هارولد لاسكي وأمثاله من الذين يُسقِطونَ فضائحَ عصرهم الكنائسي المُظلم على عالم الإسلام الذي أناره الله بنور الحق. فهل يجرؤ أحدهم أن يقول بأنه يحكم البلد بلا دين؟ أهي حكومة لادينية؟ وهل شعب مصر شعب بلا دِين؟ وهل الحزب الوطني حزبٌ بلا دين؟ هل كان الزعيم مصطفى كامل زعيماً بلا دين؟ هل هذا هو الوليد الشرعي لتاريخ مصر المسلمة؟ حزبٌ بلا هوية؟ ومصر بلا هوية؟ وولد يرثك بلا هوية؟ وأنت تعيش وتموتُ بلا هوية؟ لماذا، لأنك لديك الحلّ في الإسلام وتقبل أن تستورد حلا آخر لا تجني من ورائه غير مزيد من الخسران والتغريب والبعد عن الرَّب القريب.
هل هناك صيغة لرفض الحكم الجائر أبلغ من ملايين المهاجرين طواعية من مصر؟ هل هؤلاء كلهم مصرييون خائنون ولا ولاء لهم، أم مصريون مطحونون هربوا بدينهم وهاجروا في أرض الله الواسعة. هُم طلبوا لقمة العيش الكريمة، وليس المهانة والمذلة في طوابير الخبز المزرية. وهل المشكلة اليوم هي رغيف الخبز؟ كلا. إن المشكلة اليوم هي كرامة الشعب، وثقافته المغيبة، وحقوقه الضائعة، وأمواله المسروقة، وبلده المحتلة لوجيستياً من الخارج.
إن مصر أغنى بكثير من أن تقترض بالربا وتدفعه جزية عن يد وهي صاغرة. إن مصر أكبر بكثير من أن تنقاد لدولة من رعاة البقر لم تظهر في التاريخ قبل 1592. وما شعبها إلا مزيج من المحتلين القتلة، والسود المُستعبَدين والمخطوفين من أحضان أمهاتهم الأفريقيات. أين ذلك من مصر الحضارة والتاريخ؟ وأين ذلك من كنانة الله في أرضه؟ وأين ذلك من قاصمة الصليبيين والمغول؟ لن تعود مصر بعودة رغيف الخبز فقط، ولكن بعودة الحـُكمِ الإسلامي العادل، وعودة الكرامة لكل مصري. حتى لا يصير المصري محتقراً في العالم، يستجدي تأشيرة سفره إلى بلادِ كانت تخدمه من قبل. ويُقَبـِّـلُ قدم الدولار واليورو بعد أن كانت عملته راية العزة، يغني لها أهل الخليج، ويصفون المرأة الأبية بأنها كالجنيه المصري (هل يجرؤ أحد على تشبيه مومسٍ اليوم بالجنيه المصري؟).
هكذا يعاني شعبنا العظيم، مُرَّ العيش والحرمان، وسلب الإرادة وتدمير الكيان. لماذا؟ إنها نتيجة خدمة الغُزِّ ، والتحول إلى مبدأ الخَرَسِ الشيطاني. إن السكوت على المذلة ليس صبراً محموداً ولكنه انسحابٌ وهزيمة، وتراجع لمبدأ أهل الحق أمام هيمنة أهل الضلال. إن الشعب الذي اعتزل السياسة لمدة نصف قرن أو يزيد، لابد وأن يعود من سباته ويفيق. لابد وأن يدرك أن الأمر قد وصل إلى مرحلة متداعية جداً من التراجع الذي لا يعقبه غير الإنكفاء والإنزواء. إن ما نحن فيه الآن، هو نتاج سنوات طويلة من العبودية التي وقعنا عقدها غافلين، وصرنا على دربها سائرين. لقد تردينا من الطبيقية الإقتصادية إلى الطبقية الحقوقية، ثم ضاعت الحقوق كلها لنسقط في الطبقية النوعية. طبقية من صنفٍ جديد، لا تعترف لصاحب الحق حتى بآدميته. لقد صرنا شعباً يُباع لحمُه ويُشترى، يسخر الباغون من استكانته التي عارضت خط التاريخ وكسرت جميع زوايا ومنعطفات التغيير التقليدية. لقد أصبحنا مضرب المثل في العبودية. عبودية من نوعٍ غريب. لم يشهد مثلها حتى أوربا في احلك عصور ظلامها. عبودية يُقدم الوالدُ فيها ولدَه للرِّق بنفسه، حين يكفه عن مناكفة الباغين، ويصده أن يكون من الشرفاء المسجونين. عبودية يجب أن نتحرر منها، وأن تعود كلمات عرابي الأبية "لقد خلقنا الله أحراراً، ولم يخلقنا عبيداً أو عقاراً، فوالله الذي لا إله غيره، إننا لن نُستعبد بعد اليوم".

ليست هناك تعليقات: